كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المثال الحادى عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر. لم يصح، لأن الخراج تابع لرقبة الأرض، فهو على مالكها، لا على المنتفع بها: من مستأجر، أو مستعير.
وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها، ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا. وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح. وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى، ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة، ويوكله في إنفاقه عليها. والقياس يقتضى صحة العقد بدون ذلك، فإنَّا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته، كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه. فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها، وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة، يجوز أن يكون بعض الأجرة، والبعض الآخر شيئًا مسمى.
المثال الثانى عشر: لا تجوز إجارة الأشجار، لأن المقصود منها الفواكه. وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها.
قالوا: والحيلة في جوازه: أن يؤجره الأرض، ويساقيه على الشجر بجزء معلوم.
قال شيخ الإسلام: وهذا لا يحتاج إليه، بل الصواب جواز إجارة الشجر. كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير. فإنه أجرها سنين، وقضى بها دينه. قال: وإجارة الأرض لأجل ثمنها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها. فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقى والإصلاح، والذيار في الكرم، حتى تحصل الثمرة. كما يقوم على الأرض بالحرث والسقى والبذر، حتى يحصل المَغَل. فثمرة الشجر تجرى مجرى مغل الأرض.
فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغل من البذر. وهو ملك المستأجر، والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه في الأرض. وسقيه، والقيام عليه. بخلاف استئجار الشجر، فإن الثمرة من الشجرة، وهى ملك المؤجر.
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه. وإنما هو فرق عديم التأثير.
الثانى: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذي ينبته الله سبحانه وتعالى، بدون بذر من المستأجر، فهو نظير ثمرة الشجر.
الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقى والخدمة، والقيام على الشجرة، فهى متولدة من عمل المستأجر، ومن الشجرة. فللمستأجر سعى وعمل في حصولها.
الرابع: أن تولد الزرع ليس من البذر وحده. بل من البذر: والتراب، والماء، والهواء. فحصول الزرع من التراب الذي هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة. والبذر في الأرض قائم مقام السقى للشجرة. فهذا أودع في أرض المؤجر عينا جامدة. وهذا أودع في شجرة عينا مائعة، ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله، كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله. وهذا من أصح قياس على وجه الأرض.
وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثرة في الأحكام، ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه، فهو إجماع منهم. ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم، أو وقفًا، فإن المؤجر ليس له أن يحابى في المساقاة حينئذ، ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق في إجارة الأرض، فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يخسره في عقد آخر، ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد في عقد، بأن يقول: إنما أساقيك على جزء من ألف جزء، بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا، فإن هذا لا يصح. فعلى ما فعله الصحابة- وهو مقتضى القياس الصحيح- لا يحتاج إلى هذه الحيلة، وبالله التوفيق.
المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا، وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هي وأجرتها، فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع، وأنه ضامن لما غرمه المشترى من ذلك، ويصح ضمان الدرك، حتى عند من يبطل ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، للحاجة إلى ذلك، فإن ضمن من يخاف استحقاقه: كان أقوى، فإن خاف أن يظهر الاستحقاق على وارثه بعد موته، ضمن الدرك ورثة البائع، أو ورثة من يخاف استحقاقه إن أمكنه. فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة، وهى أجرة المثل لمدة استيلائه على العين، وهذا قول ضعيف جدا. فإن المشترى إنما دخل على أن يستوفى المنفعة بلا عوض، والعوض الذي بذله في مقابلة العين لا للانتفاع، فإلزامه بالأجرة إلزام ما لم يلتزمه، وكذلك نقول في المستعير إذا استحقت العين، لم يلزمه عوض المنفعة، لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانًا بلا عوض، بخلاف المستأجر، فإنه التزم الانتفاع بالعوض، ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذي دخل عليه.
وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها، ثم استحقت، لم يلزمه المهر، لأنه دخل على أن يطأها مجانًا، بخلاف الزوج، فإنه دخل على أن الوطء في مقابلة المهر، ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى، وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور، لأنه معذور، غير ملتزم للضمان، وهو محسن غير ظالم، فما عليه من سبيل، وهذا هو الصواب. فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانه خاصة، ولا يرجع عليه بما التزم غرامته. فإذا غرم المودع أو المُتَّهِب قيمة العين والمنفعة، رجع على الغار بهما، وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين، دون قيمة المنفعة، إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى، حيث لم يلتزم ضمانه، وإذا ضمن وهو مشتر، أو مستعير قيمة العين والمنفعة، رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين، لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى.
والمقصود: أن هذا المشترى متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع. فالحيلة في تخلصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار، أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة، ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة، فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة، طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة.
المثال الرابع عشر: إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشترى له جارية معينة، ثم خاف الموكل أن تعجب وكيله فيتزوجها، أو يشتريها لنفسه. فطريق التخلص من ذلك في الجارية: أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهى حرة. ويصح هذا التعليق والعتق، وأما الزوجة: فمن صحيح هذا التعليق فيها، كمالك، وأبى حنيفة، نفعه. وأما على قول الشافعى وأحمد، فإنه لا ينفعه.
فطريق التخلص: أن يشهد عليه أنها لا تحل له، وأن بينهما سببًا يقتضى تحريمها عليه، وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلًا. فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى، فالحيلة: أن يعزل نفسه عن الوكالة، ثم يعقد عليها لنفسه، ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلًا لنفسه عن الوكالة. فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفى يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل، فأراد التخلص من ذلك. فالطريق في ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه، فإنه إذا اشترها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه في غيبة موكله، وهو ممتنع. فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلًا.
المثال الخامس عشر: إذا وكله في بيع جارية، ووكله آخر في شرائها. فإن قلنا: الوكيل يتولى طرفى العقد. جاز أن يكون بائعًا مشتريا لهما. وإن منعنا ذلك، فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه، ثم يشتريها لموكله. فإن خاف أن لا يفى له المشترى الذي توثق منه، فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار. فإن وفى له بالبيع، وإلا كان متمكنا من الفسخ.
المثال السادس عشر: لا يملك خلع ابنته بصداقها. فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها.
فالطريق: أن يتملكه عليها، ثم يخلعها من زوجها به، فيكون قد اختلعها بماله. والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك، بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز بذلك. وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها، وربما كان هذا خيرا لها.
المثال السابع عشر: إذا وكله أن يشترى له متاعًا فاشتراه، ثم أراد أن يبعث به إليه. فخاف أن يهلك، فيضمنه الوكيل.
فطريق التخلص من ذلك: أن يستأذن الوكيل أن يعمل في ذلك برأيه، ويفوض إليه ذلك. فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه.
المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يُسْلِم وعنده خمر، أو خنازير، وأراد أن لا يتلف عليه، فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام. ثم يسلم، ويكون له المطالبة بالثمن، سواء أسلم المشترى أو بقى على كفره. نص على هذا أحمد في مجوسى باع مجوسيًا خمرًا، ثم أسلما، يأخذ الثمن الذي قد وجب له يوم باعه.
المثال التاسع عشر: إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر، فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلًا.
فالحيلة: أن يلقى فيه أولا ما يمنع تخمره، فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته. ولم يجز له حبسه حتى يتخلل، فإن فعل لم يطهر، لأن حبسه معصية، وعوده خلًا نعمة، فلا تستباح بالمعصية.
المثال العشرون: إذا كان له على رجل دين مؤجل، وأراد رب الدين السفر وخاف أن يَتْوى ماله، أو احتاج إليه، ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول. فأراد أن يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه. فقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة. فأجازها ابن عباس، وحرّمها ابن عمرْ. وعن أحمد فيها روايتان. أشهرهما عنه: المنع، وهى اختيار جمهور أصحابه، والثانية: الجواز، حكاها ابن موسى. وهى اختيار شيخنا.
وحكى ابن عبد البر في الاستذكار ذلك عن الشافعى قولا. وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول، ولا يحكونه، وأظن أن هذا- إن صح عن الشافعى- فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط، بل لو عجل له بعض دينه، وذلك جائز، فأبرأه من الباقى، حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل، ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم، صح عنده. لأن الشرط المؤثر في مذهبه: هو الشرط المقارن، لا السابق، وقد صرح بذلك بعض أصحابه. والباقون قالوا: لو فعل ذلك من غير شرط جاز، ومرادهم الشرط المقارن. وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط، ولا بدونه، سدا للذريعة.
وأما أحمد فيجوزه في دين الكتابة، وفى غيره عنه روايتان.
واحتج المانعون بالآثار والمعنى.
أما الآثار: ففى سنن البيهقى عن المقداد بن الأسود قال: «أسلفت رجلًا مائة دينار، ثم خرج سهمى في بعث بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. فقلت له: عجل تسعين دينارًا، وأحط عشرة دنانير. فقال: نعم. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: فقال: أكلت ربا، مقداد، وأطعمته» وفى سنده ضعف.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه: «قد سئل عن الرجل يكون له الدين على رجل إلى أجل، فيضع عنه صاحبه، ويعجل له الآخر. فكره ذلك ابن عمر، ونهى عنه».
وصح عن أبى المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما رضي الله عنهما. فقال: لرجل على دين، فقال لى: عجل لى لأضع عنك، قال: فنهانى عنه، وقال: نهى أمير المؤمنين- يعنى عمر- أن يبيع العين بالدين.
وقال أبو صالح مولى السفاح، واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل، ثم أردت الخروج إلى الكوفة، فعرضوا، على أن أضع عنهم، وينقدونى، فسألت عن ذلك زيد بن ثابت. فقال: لا آمرك أن تأكل هذا، ولا تؤكله. رواه مالك في الموطأ.
وأما المعنى: فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقى، فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه وذلك عين الربا، كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده، إذا حل عليه الدين، فقال: زدنى في الدين وأزيدك في المدة، فأى فرق بين أن تقول: حط من الأجل، وأحط من الدين، أو تقول: زد في الأجل، وأزيد في الدين؟